خوذة زرقاء، وصدرية مضادة للرصاص، ميكرفون وهاتف محمول وكاميرا في اليد، وخمسة حروف بيضاء بخط كبير على الخوذة والصدرية
PRESS
أنهم مراسلو الحرب، عيون العالم في ساحة المعركة، ليست بقليلة هي الأفلام التي تناولت مراسلي الحرب، وفيلم المخرج الأمريكي أوليفر ستون، سلفادور إنتاج عام 1986، حول مصور الحرب ريتشارد بويل، الذي يسافر إلي دولة السلفادور في أثناء اشتعال الاضطرابات فيها بين القوات الموالية للحكومة، والمتمردين خلال فترة الثمانينيات واحد من بين هذه الأفلام.
بدأ الفيلم بعناوين توضح أنه استند لإحداث حقيقية موضوعة في إطار درامي وشخصيات خيالية، فكان الناتج واحدا من الأفلام المميزة التي تحمل اسم المخرج المعروف بمناهضة سياسات بلاده، وافلامه التي تعبر عن موقفه السياسي تجاهها.
انتقل الفيلم من رحلة بطله الشخصية إلي الوضع المأساوي العام في هذه البلاد، ريتشارد لم يذهب إلي سلفادور لنقل الوضع الإنساني هناك، ولكن بغرض المال، فهو مدمن للخمر والمخدرات، طرد من عمله بسببهم، لديه زوجة وابن يعيشون في فقر مدقع يتعرضون للطرد من شقتهم لعدم سداد الإيحار، تصطحب الزوجة ابنها وتعود إلى بلادها إيطاليا، وتترك ريتشارد وحيداً برفقة صديقه الطبيب الذي لا يختلف عنه كثيراً
يقرران الذهاب إلي سلفادور استغلالا للأحداث المندلعة هناك، لكسب المال من الصور التي سيلتقطها، قضى الفيلم الذي تبلغ مدته ساعتين، النصف الأول منه في رحلة هذا الرجل، الذي لا يعتبر بطلا بالمعنى التقليدي، ولكنه نموذج للبطل الضد، فهو مدرك أن حياته بائسة، ولا يحاول بأي شكل أن يبحث فيها عن المعنى، ويبدو أنه تناسى أيضا الرسالة السامية لمهنته، لذلك نجد أن المخرج وهو نفسه كاتب نص الفيلم، وضع شخصية بطولية أخرى يدعى جون كاسيدي، هذا المصور الذي يسعى لالتقاط ما يطلق عليه (اللحظة السحرية) التي يواجه فيها الإنسان الموت في الحرب، ويظهر ذلك في الجمل التي قالها لريتشارد وهم يصورون موتى إحدى الهجمات الحكومية على الثوار، فبيقول له:
– أتعرف ما الذي يجعل المصورون مثل روبرت كابا مشهورين وأغنياء؟
أنهم لا يسعون وراء المال، أنهم يصورون نبل المعاناة
الإنسانية
لكن ريتشارد لا يزال نزيها، ولديه مبادئه، فهو ليس بجاسوس عندما تحاول المخابرات الأمريكية استغلاله
يرفض بشدة
وضع المخرج حبكة فرعية في الأحداث تساهم في تغيير مصير البطل، وهي علاقة غرامية مع إحدى الفتيات في سلفادور، اتخذها ريتشارد هي وأبنائها بدلا لعائلته التي تركته وتركها، لكن طوال النصف الأول من الأحداث، يتصارع ريتشارد مع نفسه، ويحاول استغلال الماسي لكسب المال بأي شكل
لهذا قد يبدو السرد مشتتا لكنه يمثل الشخصية بالتيه الذي تعانيه، يبدأ التغير يزحف لحياة ريتشارد عندم يتم إلقاء القبض على شقيق حبيته الصبي الصغير، ويحاول ريتشارد التوسط لإخراجه من السجن، وكذلك محاولاته للحصول على إذن بخروج حبيبته وأبنائها من البلاد، نرى أول خطوة على طريق تغير شخصيته هو إعلانه التوبة والاعتراف بخطاياه في الكنيسة، لنرى بعدها الاختبارات الحقيقية التي يضعها القدر أمامه لاختبار مدى قوة عزيمته
يستغل المخرج في الفيلم حادثتين تاريخيتين مشهورتين في حرب السلفادور، اغتيال الكاهن أوسكار روميرو على يد القوات الموالية للنظام، ومقتل أربع راهبات من الحملات التبشيرية بوحشية بعد اغتصابهن
مشهد الكاهن روميرو واحد من أفضل مشاهد الفيلم، من قوة مستوى الحوار الذي تمثل في الخطبة أو الموعظة التي كان يلقيها في القداس، لتنتهي بنهاية مأساوية بمقتله
ثم الخطوة التالية في التغيير عندما يقتل شقيق حبيته بوحشية، وتتركه حبيبته، فيغرق ريتشارد في بحر الخمر والتيه، حتى يصل إلي الحدث الذي آفاقه على صفعة على وجهه، عند قتل الراهبات، قدم لنا المخرج الراهبة الشابة كاثي مور، وهي صغيرة مليئة بالحياة، تحب سلفادور وأهلها والحملة التبشيرية لمساندتهم، يربطنا المخرج بها وبطيبة قلبها، ولطف تعاملها مع ريتشارد، حتى يعرض علينا المخرج الحدث الوحشي، فنستفيق نحن قبل ريتشارد
بعدها يعود ريتشارد لسلاحه ( الكاميرا ) التي كان بدونها طيلة أحداث النصف الأول، لينغمس في النصف الثاني ويحاول برفقة جون كاسيدي تصوير معاناة هؤلاء الأشخاص. فينتقل بين القوات الموالية، والثوار لالتقاط ما يراه، يهاجمه ساسة بلاده هناك بأنه يساري شيوعي يساند الثوار، وهو يفضح سياسات بلاده هناك، عندما طلب منه قائد الاستخبارات العسكرية التلصص على الثوار وأسلحتهم
هنا ظهر المعدن الحقيقي لريتشارد عندما واجه كلا من المسؤول الحربي والسياسي باستغلال الحكومة الأمريكية لوضع السلفادور بورقة المساعدات العسكرية، في واحد من المشاهد التي تعلق في الذاكرة من أداء الممثل (جيمس وودز) الذي ترشح عن دوره هذا لجائزة أفضل ممثل في جوائز الأوسكار آنذاك، هنا تحدث ريتشارد بلسان أوليفر ستون ورفضه لسياسات بلاده، والقيم الزائفة التي تتغنى بها، وافتقاده لمبادىء دستور بلاده، بل وتجلت نزاهة ريتشارد عندما واجه الثوار بعد تصفيتهم للأسرى الجنود الموالين للنظام، هو يدرك أنه ينقل الحقيقة ولا ينحاز لأي طرف على حساب الحق
اوليفر ستون كان حاضرا في الفيلم، من خلال الفيلم نفسه كمناهض لسياسات بلاده، وكذلك في شخصية جون كاسيدي البطل الذي كان يعمل في الظل، المراسل الذي كان يسعى لنقل معاناة الإنسان، لذا؛ منحه المخرج نهاية عظيمة لنبل شخصيته، لم يستغل المخرج هذه اللحظة، ويحاول من خلالها استدرار مشاعر المتفرج من إستخدام الموسيقى التصويرية، لكنه استخدم اللقطة المقربة لجون وريتشارد في اللحظات الأخيرة والصمت لتقديم صرخة مكتومة
الفيلم بأكمله وببطله الضد يمثل تعامل أمريكا مع العالم، واستغلالها إياه بهدفها المزعوم منذ بداياتها، وهو حماية أراضيها ومواطنيها، حتى قرب النهاية بعدما ظن ريتشارد أنه على وشك النجاة هو وعائلته الصغيرة البديلة، يذكرنا المخرج أن الحلم الأمريكي والديمقراطية هم مجرد أوهام زائفة
كاميرا أوليفر ستون قاسية مثل موضوع فيلمه، في حركة مستمرة لا تهدأ إلا عند المشاهد الرومانسية القليلة، كانت تائهة أيضاً مثل تيه البطل، ثم جسورة تقتحم القتال مثل جون كاسيدي لنقل صورة تقترب من الحقيقة.
قدم أوليفر ستون صورة تخص بلاده ليعكس من خلالها مأساة نعيشها حتى اليوم لمجرد أننا نعيش على نفس الكوكب مع هذه الولايات المتحدة
الفيلم الوثائقي
عشرون يوما في ماريوبول
الوثائقي الحائز على جائزة الأوسكار للعام الماضي كأفضل وثائقي
عن تجربة مراسلين اوكرانيين في توثيق الهجومي والأحتلال الروسي لمدينة ماريوبول الأوكرانية
الفيلم أخرجه وصوره وكتب تعليقه الصوتي المراسل الأوكراني ميستسلاف تشيرنوف
الفيلم هو رحلة هذا المصور يالتي صحبنا خلالها بتعليقه الصوتي خلال الأحداث التي عايشها في المدينة
رحلة قاسية وعنيفة، نقلت تجربة محاولة صموده والنجاة بحياته لنقل الحقيقة، وكذلك من أجل أن يرى بناته مرة أخرى
صوته كان حزين هاديء في نقل الأحداث التي قدمها على شكل يوميات توثق الإحتلال، كانت كاميرته تنخفض، وتنظر إلي الأرض عندما يعلن عن كل حالة قتل يوثقها، كاميرته كانت أكثر إنسانية في هذه المشاهد
لن أتحدث عن مأساوية الوضع الذي نقله، نحن هنا أمام حقيقة وليست إعادة تصوير لها مثلما فعل اوليفر ستون في فيلمه، هنا الحقيقة ابشع، صراخات حقيقية، صدمة نراها على الوجوه صعب استيعابها، نحن نرى هذا كل يوم، كل يوم على الشاشات، فبات ما نراه في الفيلم ثقل آخر فوق الأثقال التي نحملها على كاهلنا كبشر على هذا الكوكب
أفضل إختيار قام به المخرج أنه لم يظهر بنفسه، إلا في لحظات خاطفة أو في انعكاسه في مرآة، لكنه كان مشارك بصوته وتصويره
في النهاية، الخوذة، والصدرية المضادة الرصاص، وكلمة صحافة لم تمنع في يوم رصاصة قناص، ولم توقف يد جندي في التصويب على المراسلين، فالحروب لا تعترف بالاعراف والقوانين الدولية، لكن هذا لم يمنعهم ابدًا في سعيهم الدائم لنقل الحقيقة